كنا قد فرغنا لتونا من إحدى فقرات المؤتمر ، وبقى على موعد صلاة الظهر أقل
من الساعة . اقترحت عليه أن نتناول كوبين من القهوة بالحليب ، مع قطعة من
الكيك ، لنضع عن كاهلينا شيئا من العناء ، الذي فرضه ضغط البرنامج ، الذي
بدأ مع ساعات الصباح الأولى . استحسن الفكرة ، فتوجهنا إلى الفندق ، حيث
مقر إقامتنا .
في البهو الأرضي أخذنا زاوية قصية ، منحنا انعزالها بعض الخصوصية ، و كثيرا
من الهدوء الذي نحتاجه . كنت قد تعرفت على مصعب في مؤتمر سابق ، فاستمرت
العلاقة بيننا ، رغم بعد المسافة ، وقويت ، لتتحول إلى صداقة حميمة .
مصعب في العشرينات ، برونزي اللون ، شعره أسود فاحم ، و يكسو وجهه لحية
خفيفة ، تضفي عليه مسحة من السكينة والوقار ، رغم صغر سنه . في ظلال عينيه
يتوارى حزن لا يفصح عن نفسه ، ويمنع من السؤال عنه حياء ، جعل من مصعب قليل
الحديث ، وجعل من يعرفه يتردد في الدخول في مغامرة لاستكشاف دخيلتة .
لم نتكلم كثيرا ، لكن مذاق القهوة الساخنة اللذيذ ، وهدوء المكان ، جعلاني
أبادر (مصعب) ، عندما رأيت في محياه علامات الاسترخاء ، والاستغراق في
لحظات تأمل عميقة ، لأسأله عن أصعب موقف مر به خلال السنوات الخمس ، التي
مضت على وجوده هنا ، في الولايات المتحدة الأمريكية ، كشاب نشط في حقل
الدعوة إلى الله .
خيل إلى ، حينما صعد نظره في ، كأنما قد سألته عن أمر كان يفكر فيه ، لحظة السؤال .. فقال ، و كأنه يدفع عن نفسه تهمة :
ـ عفا الله عنك ، وأي مواقف تستحق أن تسجل لشاب صغير مثلي ، إلا أن يكون سؤالك استفهاما عن شئ بلغك عني .
كانت عيناه تقولان شيئا قطعا ، وأحسست بالحرج من الطريقة التي رد بها علي ،
ومن نظرته إلي فسكت . مرت لحظات من الصمت بيننا ، تشاغلت فيها بتحريك
الملعقة داخل كوب القهوة ، الذي بقي فيه نصفه ، وتلهى هو ، بصف مكعبات
السكر فوق بعضها في الطبق الذي أمامه . ثم فجأة قال لي :
ـ كأني لم أكن لطيفا في الرد على سؤالك ..؟
ـ لا .. لكن يبدو أنني لم احسن طريقة صياغة السؤال ، أو ربما أنني أقحمت نفسي في شأن خاص .
ـ لا … ليس أي منهما ، لكن .. و ( تردد لحظة ) أسألك بالله هل بلغك شئ عني..؟
ـ لا والله ، أنت عندي فوق الشبهات ..
أطرق قليلا ، ورأيت سحابة داكنة تظلل وجهه ، ثم رفع رأسه وقال :
ـ أنت تعرف مكانتك عندي ، وسأحدثك حديثا من أعجب ما مر بي .. :
في العام الماضي مررت بتجربة .. كان الفصل الدراسي يلفظ أنفاسه أو يكاد .
هذه هي المحاضرة الأخيرة … قبل الامتحان النهائي ، وكان أستاذ المادة ، ”
مناهج البحث ” ، قد وعدنا أن يستكمل في هذه المحاضرة ما بدأه في المحاضرة
السابقة ، من شرح لأهم عناصر المادة . وكما تعلم ، نحن الذين نتحدث
الإنجليزية لغة ثانية ، يهمنا جدا ، مثل هذه المحاضرات المركزة ، رغم
وطأتها الثقيلة على الذهن .
كنت مستغرقا تماما في الاستماع للدكتور ، والكلمات تخرج تباعا من فمه ،
مثلما يقذف بركان حممه . في هذه اللحظة ، وصل (طالب) متأخر – لم ألق له
بالا – وصار يخترق الصفوف ، حتى أخذ مقعدا بجانبي . لم أره ، لكني لمحت
خيالا ، وسمعت صوت تحريك الكرسي . تأكدت أنه جلس في الكرسي المجاور ، حينما
طلب الدفتر الذي أسجل فيه ملاحظاتي . أعطيته إياه ، دون أن أنظر إليه ، أو
حتى أسأله ، لماذا .. ، لأني كنت منشغلا بتدوين ما يقوله الدكتور .
كان الدكتور قد أنهى كلامه ، حينما سمعت (الطالب) الذي جلس بجواري يقول :
ـ أريد أن استعير دفترك .. بالمناسبة أنت مسلم ..؟
ألتفت إلى مصدر السؤال ، الذي كان مفاجئا لي ، لتصطدم عيناي بمفاجأة أكبر .
لقد كان الذي جلس بجواري ، وطلب دفتري ، فتاة في غاية الجمال . كانت تقلب
بين يديها لاصق من ذلك النوع الذي يوضع على مؤخرة السيارة ، والذي يحمل
عبارات مثل :
” اقرأ القرآن .. آخر وحي نزل من السماء ” ، أو ” الإسلام آخر الديانات السماوية .. تعرف عليه ” .
كان اللاصق ، مع أوراق أخرى عن الإسلام ، موجود ضمن دفتر محاضراتي ، الذي طلبت الاطلاع عليه . قلت لها ، وأنا أحاول ترتيب دفتري :
ـ نعم أنا مسلم .
كان الدكتور يجمع أوراقه ليغادر القاعة ، حينما بادرتني بسؤال آخر قائلة :
ـ بالمناسبة ما هو الإسلام ..؟
كنت مرتبكا ، مشتت الذهن ، بين الإجابة على سؤالها ، والدخول معها في حوار ،
رغم ما وقع في قلبي منها ، وبين شعوري ، من جهة أخرى بالمسئولية ، بتبيان
ما هو الإسلام لها .
كانت المفاجأة التي شلت قدرتي على التفكير ، هي أنني لم أتوقع موقفا كهذا .
فأنا رغم مرور ثلاثة أشهر على الفصل الدراسي ، لم أر هذه الزميلة مرة
واحدة ، لأني آتى آخر الناس ، قبل موعد المحاضرة بلحظات ، وأقبع في آخر
مقعد في القاعة ، واخرج أول الناس لحظة انتهاء الوقت المخصص للمحاضرة ، دون
أن أنظر في وجوه الطلاب الذين يشاركونني المكان . بين هذين الوقتين ، أكون
مشغولا بتسجيل ما يقوله الدكتور ، أو التفكير بشأن من شئوني الخاصة خارج
الجامعة .
كانت تنتظر إجابتي على سؤالها ، وهي واقفة على رأسي ، وقد خلا المكان ، إلا
مني ومنها . قلت وأنا أحاول أن أتخلص من الموقف الذي وضعتني فيه :
ـ الموضوع يحتاج إلى وقت ، لكني أستطيع أن أعطيك بعض المنشورات التي تجيب على بعض تساؤلاتك .
ردت بسرعة ، قائلة بأن لديها الوقت لتسمع مني ، إن لم يكن لدي مانع . أسقط في يدي ، فقلت :
ـ نعم .. لا بأس ..
فأسرعت تقول :
ـ ما رأيك لو نجلس في الكافتيريا ، وأدعوك إلى كوب من القهوة ..؟
شعرت بحرج شديد ، وتساءلت في نفسي : ماذا لو رآك أحد ، و أنت مع هذه المرأة
؟ من سيصدق أنك تعرض عليها الإسلام ..؟ ومن سيصدق أنها هي التي ابتدأتك
بالسؤال ..؟
لم تنتظر ردي ، وظنت أن صمتي علامة الرضا والموافقة ، فقالت :
ـ أشكرك على قبول الدعوة .
سرنا إلى الكافتيريا و أخذنا مكانا نائيا ، بعد أن طلبنا قهوتنا . وشرعت
أحدثها عن الإسلام . أثناءها كنت أتوقف لحظات عن الحديث ، لأتيح لها فرصة
السؤال عن نقاط محددة . كانت تسأل .. و كانت أسئلتها تدور حول قضايا لا
علاقة لها مباشرة بالموضوع ، وأقرب ما تكون استجلاء لطبيعة شخصيتي ،
وطريقتي في التفكير . لاحظت كذلك ، أنها تدون كل ما أقول .
عند هذا الحد أنهيت الحديث ، واعتذرت ، متعللا بارتباطي بموعد سابق .
حين هممت بالانصراف قالت :
ـ كيف أعيد لك أوراقك ..؟ لقد نسيت أن تخبرني بعنوانك …
في واقع الأمر لم أنس ، ولكني لم أشأ أن تعرف أين أسكن . قلت :
ـ أنا لا أبقى في البيت كثيرا .. سأكون غدا في المكتبة ، وباستطاعتك أن تتركيها لدى الموظف في قسم الإعارة .
حملت نفسي ، وأنا أنوء ، ليس بذلك الحشد من الكتب ، التي تزدحم بها حقيبتي ، بل بوجع صرت أحسه يجثم على قلبي .
صرت معذب بين قلبي وضميري ، يتجاذبني أمران : هواي الذي يزين لي الحديث مع
هذه الفتاة باسم الدعوة ، وعقلي الذي تصيح به نفسي اللوامة :
أنظر ما تصنع أنت تحوم حول الحمى توشك أن ترتع فيه .. ألا إن حمى الله محارمه .. ألا إن حمى الله محارمه …
كنت قد وصلت سيارتي ، فألقيت بجسدي على المقعد ، و وضعت رأسي على المقود .
أحسست أني أتنفس بصعوبة . احتقنت عيناي بالدموع ، لكني لم أبك . وضعت
المفاتيح ، وبدأت بتشغيل السيارة .
في هذه اللحظة انطلق صوت القرآن نديا من جهاز التسجيل ، الذي كان في وضع
التشغيل . يا الله ذاك الجفاف الذي كاد يخنقني ، وحاصر الدمع في عيني ،
يتبدد على صدى النداء الخالد ، كلام الحق سبحانه ، فتدفق الدمع من محاجري
حارا ، وصرت انشج مثل الأطفال . استغفرك ربي .. هذه شيطانة تعرضت لي ،
سأطردها من خاطري ، سأجتثها من قلبي . آه يا قلبي .. ساعدني يا رب ..
ساعدني .. فإن قلبي مصاب .
نمت ليلتي تلك ، بعد أن صليت وتري ، وتضرعت بين يدي الله ، أن ينصرني على نفسي والشيطان .
من الغد كنت في المكتبة في مكاني المعتاد ، في قاعة الإطروحات الجامعية ،
التي تتصل عبر ممر ضيق بالجزء الخاص بالكتب التي نفدت من السوق ، ولم يعاد
طباعتها . إما لأسباب قانونية ، أو لأن موضوعها قد تجاوزه الزمن .
أفضل هذا المكان لهدوئه ، ولأن قلة من الطلاب يجلس فيه ، بسبب قدم المبنى ،
وتهالك الطاولات ، كما أني أظن أن قليلا من الطلاب ، يتحمل نظرات باحث
كبير السن ، لا يفارق ذلك المكان ، منذ عرفت الجامعة ، وعثرت صدفة على هذه
الزاوية النائية في المكتبة . هذا الرجل يظل يحدق في أي قادم جديد إلى
المكان ، وتزداد نظراته حدة عند أي صوت يحدث ، حتى ولو كان رفيف تقليب
صفحات كتاب .
استقريت على مقعدي ، وألقيت ابتسامة على رفيقي الباحث ، الذي حدجني بنظرة
من خلف نظارته ، وبادلني ابتسامة بابتسامة . لقد اصبح بيني وبينه عقداً غير
مكتوب ، قائم على الإقرار بحق كلينا في المكان . ربما بعد أن نسي في إحدى
المرات محفظته ، فعثرت عليها ، و أعطيته إياها . فقال لي ، بعد أن فتشها
أمامي ، ولم أكن أنا أعرف ما بداخلها ، أنت رجل أمين . كما أظن أني ملكت
قلبه ، عندما أعطيته مرة فطيرة حمص . فقال بعد أن أكلها ، على جوع فيما
يبدو ، إنها لذيذة ، أنت رجل لطيف .
كان قد مر علي ثلاث ساعات تقريبا ، وأنا منهمك بالمذاكرة ، فلم أقم من
مكاني ، وكان تركيزي جيدا . ربما كان هدوء المكان سببا من الأسباب . إحساسي
بأهمية المادة وانسجامي معها سبب آخر .
كنت في حال من السكينة النفسية لم أشعر بها من قبل ، حتى أنه لم يرد على
خاطري أي من الأحداث والمواقف ، التي مررت بها خلال الأيام الماضية . طافت
هذه الأفكار بسرعة في ذهني ، فابتسمت ابتسامة رضا عن نفسي ، وأنا ألقي نظرة
متثائبة على الساعة ، التي عادة ما أجعلها تتمدد أمامي بكسل .. أحيانا ،
وبقلق في أحايين أخرى .
(مرحبا) ..
هكذا خيل إلى أني سمعت . لم أرفع رأسي من الكتاب ، وقلت لنفسي بدأت الأوهام تعتريك ، لم لا أرتاح قليلا ، وأقرا بعض الصحف .. ؟
(مرحبا) ..
مرة أخرى .. كأنه صوتها ، رفعت رأسي ، وقلت مذهولا :
ـ ديمي ..؟
ـ هل أزعجتك ..؟
(يا إلهي لم أكن واهما) …
ـ كيف عرفت مكاني يا ديمي ..؟
ـ لم يكن صعبا .. شخص مثلك ، من السهل على من هو مثلي ، أن يعرف مفتاح
شخصيته .هل نسيت أن تخصصي الفرعي علم نفس .. أه عفوا .. نسيت أن أخبرك ذلك .
أنا بالمناسبة ، أدون في دفتر ملاحظاتي كل شيء عن الأشخاص الذين التقي بهم
. هل يزعجك أن تعلم أني فعلت الشيء نفسه معك .. ؟ أرجو أن تعتبر سلوكي
الغريب هذا ، نوعا من الفضول الأكاديمي .
كنت أنظر إلى وجهها و أحس أنني أزداد تعلقا به ، وهي تحدثني بتلك الطريقة
الواثقة . قلت وأنا أشعر بالقلق النفسي يتسرب شيئا فشيئا إلى نفسي :
ـ ديمي كيف جئت إلى هنا .. ؟
قالت مازحة:
ـ وأنا واقفة .. ؟
أشرت لها بالجلوس ، ورميت بابتسامة على شريكي في المكان ، الذي يبدو هو
الأخر مستغربا من هذا الضيف المفاجئ ، وهو الذي لم يعهد لدي ضيوف أو زوار
من أي نوع ، منذ أن جمعنا هذا المكان ، طوال سنوات الدراسة الثلاث الماضية ،
ناهيك أن يكون (ضيفا) بهذا المستوى .. وبدا أنه أدرك الحرج الذي أنا فيه ،
فمنحني ابتسامة من نوع مختلف جدا هذه المرة .
نظرت إليها مستفهما ، انتظر أن تخبرني كيف استدلت على مكاني .. قالت :
ـ أنت شخص جاد ، لديك اهتمامات خاصة . ربما بتأثير من الثقافة التي تنتمي
إليها ، علاقاتك النسائية محدودة ، ولا يبدو أنك تسعى إلى شئ من ذلك . ضع
هذه المعطيات في جانب . الأماكن الأخرى في المكتبة تكثر فيها الحركة ،
ويكثر فيها تحرك الطالبات . نحن البنات نحب الاستعراض ، حتى في الأجواء
الأكاديمية . النتيجة ، بناء على ما سبق ، ستكون في مكان مثل هذا . طبيعي
أني لم آت إلى هنا مباشرة ، ولكن بعد مسح سريع للأماكن الأخرى ، تأكدت أنك
إن كنت في المكتبة فلابد أن تكون في مثل هذا المكان .. توقعاتي صحيحة ،
أليس كذلك .. ما رأيك ألست خبيرة (سايكولوجية) جيدة .. ؟
هززت رأسي بالإيجاب ، وأنا اسحب من أعماقي آهة دوت في أذنيها .. قالت :
ـ أنت متعب ؟
ـ نوعا ما ..
ـ هل أستطيع أن أفعل لك شيئا ..؟
ـ لا .. شكرا ، أشعر فقط بشيء من الإجهاد . .
(لماذا جئت يا ديمي .. أنا هارب منك) .. قلت لنفسي . يا ربي ساعدني ، فأنا
اغرق أكثر فأكثر في لجتها . لم يعد لصوتها ، ووقع كلامها ، نفس الأثر كما
كان لقاؤنا لأول مرة . الآن أريدها أن تبقى ، أريدها أن تتكلم .. ساعدني يا
إلهي . انقطعت خواطري على صوتها تخاطبني :
ـ أريد أن اعتذر ، لأني لم احضر أوراقك …
ـ ما دامت الحالة هكذا ، لم يكن هناك حاجة لكي تأتي ، وتشقي على نفسك ، فأنا أستطيع أنتظر يوما أو يومين ..
ـ لا .. فأنا قد وعدتك أن أحضرها لك ، ولم أرغب أن أخل بوعدي .. إضافة إلى
أني أود أن استكمل معك الحديث عن الاسلام ، إن لم يكن في ذلك ازعاج لك ..؟
قلت وأنا أحاول أن أصرفها ، خاصة وأن الشعور بالذنب قد بدأ يشدد الخناق علي :
ـ هل هناك شيء محدد .. ؟
ـ هناك موضوعان ، وأعذرني فيما لو جرحت شعورك ، بعبارة لم أحسن استخدامها ،
فأنا أحدثك بناء على الصورة النمطية للإسلام في ذهني ، والتي تراكمت ، ليس
نتيجة تجربة شخصية ، ولكن من خلال التعرض لوسائل الإعلام .
سكتت ، فنظرت إليها منتظرا أن ، تخبرني ماذا تريد أن تقول ..
قالت ، وعيناها على عيني :
ـ هل هناك مكان للتسامح والحب في الإسلام .. ؟
طأطأت رأسي ، وتذكرت أني لابد أن أديم النظر إليها وأنا أحدثها ، مجيبا على
سؤالها . هكذا هو العرف في ثقافتها ، و إلا كنت قليل أدب ، ومحتقر للطرف
الآخر ، الذي أتحدث معه . يا إلهي ماذا أصنع ؟ لقد أصبح النظر إليها يعذبني
مرتين . يعذب قلبي ، الذي تاه في فضاءات وجهها ، الذي أبدعت قدره الخالق
في تصويره ، ويعذب نفسي التي تعلم أنها ترتع في حرام .
يا إلهي ساعدني فإن قدمي تزل : هل أطيع نفسي وشيطاني ، الذي يتمسح بالعرف
في ثقافتها .. وبالدعوة . أم أطيع نداء ضميري ، الذي يقول لي ، بل يصرخ بي :
” إنك في دروب الغواية سائر ” ؟ هل حقا يعنيك أن تحدثها عن الإسلام ..؟ أم
يعنيك أن تتلذذ برؤية مواقع الجمال في وجهها العاجي الصغير . تطل على
وجنتيها المتوردتين ، ثم تتأمل هاتين الشفتين القرمزيتين ، ثم تبحر في
عينيها الزرقاوين “. ظنت أني حينما طأطأت رأسي ، وأطلت السكوت ، أنها قد
أساءت لي بسؤالها ، فقالت :
ـ أنا جد آسفة ، لم أتعمد أن أسئ إليك ، ولم أقصد أن انتقد الإسلام ، أو
اتهمه بشيء .. ربما كان يجب أن أقول : كيف ينظر الإسلام للحب والتسامح ،
مقارنة بثقافات أخرى .. ؟ أو ربما كان سؤالي سخيفا تماما ، ولا معنى له …
رفعت رأسي فالتقت عينانا . كان الشعور بالحرج ، والاحساس بالذنب ، قد صبغ
وجهها بحمره ، فاستحال إلى شئ آخر مذهلا . عيناها انكسرتا بتذلل ، فأضافتا
إلى ذلك كله مشهدا استولى علي ، فقلت بألم ظاهر :
ـ ديمي يكفي ..
فاستعبرت .. وقالت بصوت يتهدج :
ـ سامحني ..
ـ أنت لم تفعلي أي خطأ .. أنا فقط كنت أفكر بالطريقة التي أجيب بها على تساؤلاتك .
كان مستحيلا أن تستمر عيناي معلقتان بوجهها . أي تبرير سيكون خداعا وغشا ، لا علاقة له بدعوة ، أو بتأليف قلب .. قلت لها :
ـ ديمي هل تسمحين لي أن لا أطيل النظر إلى وجهك .. ؟ هناك مبررات لها علاقة
بثقافتي .. وهي قطعا لا تنطوي على أي مضامين سلبية .. قد تأتي مناسبة أخرى
، وأوضح لك لماذا . وافقت .. وبدأت الحديث ..
حدثتها عن التسامح كقيمة من قيم الإسلام الكبرى ، كما دلت على ذلك النصوص
من القرآن والسنة . وعرضت لمواقف الرسول صلى الله عليه وسلم ، كتطبيق عملي
لتلك النصوص . موقفه صلى الله عليه وسلم من قريش يوم فتح مكة ، حينما قال
لهم : “اذهبوا فأنتم الطلقاء” . وأخذتها في سياحة في تاريخ أمتنا العريق .
كنت بين وقت وآخر ، اختلس نظرة لوجهها ، لأرى وقع كلامي عليها . كان التأثر
باديا عليها ، لكن لم أكن أعلم يقينا ، هل ذلك بسبب ما أقول ، أم تفاعلا
مع صوتي ، الذي بدا مجهدا ، حزينا ، وأحيانا متوسلا .. أن تقول : آمنت
بدينك واتبعت الرسول (صلى الله عليه وسلم) ..
أم تراها أشفقت علي .. و هي ترى وجهي قد شحب ، حتى خلت أن الدم غاض منه ، وفاض في محياها ، الذي يزداد جمالا كلما ، ازدادت ألما ..
سكت .. ثم نظرت إليها ، وقلت :
ـ هذا ما لدي ..
ـ عظيم .. رائع ، ماذا عن الحب .. ؟
ـ آه الحب .. لم لا نؤجل ذلك إلى وقت آخر يا ديمي .. ؟
كنت أريد أن ارتاح ، أن أضع حدا لهذا الأمر ، الذي لا أراه يقودني إلا إلى
متاهة .. كلما سرت فيها .. أغرتني في التوغل أكثر . “ما أنا ولهذه المرأة ”
” أقول لنفسي . إن كانت تريد الإسلام ، فقد حصلت على ما يضع قدمها على
الطريق إليه ” .
لماذا وقت آخر ..؟ لم لا أقول لها لا وقت لدي ، فكري بما تحدثنا به ،
واتصلي بالمركز الإسلامي لمزيد من المعلومات . هل أعترف بعجزي ، بل خوفي من
أن أقول لها ذلك ..؟
لا .. لا أظن إلا أنني سأتوقف عند هذا الحد ، قبل أن أصل لمرحلة أكون فيها عاجزا عن فعل أي شئ تماما ..
قطعت حبل أفكاري و قلت :
ـ ديمي .. أنا بحاجة إلى أوراقي في أقرب فرصة ، ليس لدي وقت كاف لتغطية
المقرر ، والامتحان كما تعلمين بعد ثلاثة أيام ، ولدي امتحانات أخرى ..
ـ عفوا ،يبدو أني أضعت وقتك ، و أزعجتك جدا بتصرفاتي الحمقاء ، لم أدرك كم أنت مشغول ومتعب …
قالت معتذرة .. ثم أضافت :
ـ ما رأيك لو نذاكر مقرر الدكتور اندرسون .. (مناهج البحث) معا 0 أستطيع أن
أنفعك كثيرا في الإحصاء ، بحكم دراستي لعلم النفس .. و أنت ستفيدني في
النظريات ، وهو ما لاحظته ، من خلال تعليقاتك المهمة على محاضرات دكتور
فريدمان .
يا إلهى هل أنا بحاجة لعرض مثل هذا ..؟
قلت لها :
ـ لا .. لا أظن أني سأفيدك .. فأنا طريقتي في الدراسة متعبة ، لمن لم يعتد عليها ..
ـ كما تشاء .. أين ستكون الليلة لأحضر لك أوراقك ..؟
فاجأني سؤالها ، فقلت :
ـ آه … الليلة سأذهب لشراء بعض الأغراض الشخصية من مركز (رينبو كلر مول) 0 ردت بسرعة :
ـ جيدا جدا ، المكان قريب من حيث أسكن ، متى ستكون هناك ..؟
ـ بين السادسة والسابعة ..
تعمدت أن لا أعطيها وقتا محددا ، حتى أجعلها تغير رأيها في شأن مقابلتي ، رغم حاجتي الماسة لأوراقي .. قالت :
ـ ما رأيك لو نتقابل الساعة السابعة وعشر دقائق في مقهى (الكيف دوماسيه) في الطابق الأول ، على يمنيك وأنت خارج من المصعد ؟
اتفقنا على المكان والوقت .. وانصرفت ، لتتركني مع همومي وأوجاعي ، التي صارت تتضاعف بعد كل لقاء أراها ، وأحدثها فيه ..
ألقيت بيدي على جانبي الكرسي ، وأسدلت رأسي على كتفي ، وتنفست نفسا عميقا .
لم ْأنتبه إلا على صوت (مارك) ، شريكي في المكان ، الذي انتشلني من حالة
تفكير عميق ، استرسلت فيه .. قال :
ـ لابد أنه كان موضوعا ساخنا ..؟
ألتفت إليه ، وتذكرت أني نسيت كل شئ ، حين حضرت ديمي ، بما في ذلك مارك
الذي يزعجه أي شئ . قلت مجيبا على سؤاله ، الذي لا يخلو من خبث :
ـ لا بد أنك تحملت كثيرا يا مارك ، فمعذرة ..
حاولت العودة إلى دروسي مرة ثانية ، لكن أنّى لي ذلك . قلبت الكتاب مرة ،
ومرتين ، وثلاث ، دون فائدة . أصبح رأسي مملوءا بها . بوجهها .. وبصوتها ..
واليوم أضيف إلى ذلك بكاؤها ، وعبرتها .. إذ تخنق صوتها المتهدج .. فتحيله
إلى شيء خرافي …
الساعة تقترب من الواحدة .. لم يبق على صلاة الظهر كثيرا . فكرت أن أذهب
إلى المركز الإسلامي ، أقرأ شيئا من القرآن ، وأصلي الظهر جماعة ، مع من
يكون موجودا من الإخوة . لا شك أني سأرتاح مع كلام ربي ، وفي بيت من بيوته ،
ومع اخوة لي ، تذكرني بالله رؤيتهم ..
هكذا قلت لنفسي ، وأنا أجمع كتبي وأوراقي ، وساعتي الممددة على الطاولة .
عندما حملت أوراقي ، وشرعت بالمسير رمقت مارك بنظرة ، فبادرني قائلا :
ـ الإنسان يحتاج إلى الراحة والهدوء ، بعد كل مرة يلتقي بواحدة منهن ..
ـ ماذا تقصد ..؟
ـ النساء طبعا .. لذلك تراني قد تخلصت من هذا الصداع . أنت شاب .. أنا أفهم
ذلك ، لكن حاول أن تتلافى مثل هذه الأشياء .. في فترة الامتحانات على
الأخص ..
ـ شكرا مارك ..
قلت ، وأنا استدير منصرفا ، ثم تمتمت في نفسي :
الأمر أكبر مما تتصوره ..
وصلت المسجد .. قرأت ما تيسر ، وصليت . لكن .. لم يكن هناك مجال للحديث مع
أحد . الكل مشغول بالامتحانات . صحيح أنني أكثر راحة من ذي قبل ، لكني أشعر
بالم في داخلي . خرجت من المسجد ، و توجهت إلى منزلي . حين دخلت ، رميت
بكل شيء على طاولة الطعام ..عند المدخل ، و وجدت صعوبة في خلع حذائي . سحبت
نفسي و تهالكت على الأريكة في الصالة .
حينما تغشاني النعاس .. و بدأ جسمي يفتر .. دق الهاتف ، رفعت السماعة ، فجاءني الصوت ناعما .. يقول :
ـ هذا أنت
قلت بإحباط :
ـ ماذا ..؟
ـ أوه .. آسفة لابد أنه رقم خطأ .. !
للحظة داخلني ألم شديد ، ظننت أنها هي ، وسيطر علي هم واحد ، كيف عرفت
رقمي ..! سحبت سلك الهاتف ، ورميت بنفسي على فراشي . أريد شيئا واحدا ..
أريد أن انساها .. لعل الله أن يلهمني شيئا في منامي ، يخلصني من هذا
البلاء .
نمت نوما عميقا لساعتين أو اكثر . هذه أول مرة أنام فيها .. منذ تعرضت لي هذه
( الساحرة ) ، دون أن تكدر أحلامي الكوابيس . استيقظت وصليت العصر ، ووقفت طويلا بين يدي خالقي .
غدا الجمعة يوم مبارك ، وفيه ساعة استجابة . سألح على ربي بالدعاء ، ففي
قلبي من تلك المرأة شئ كثير ، رغم أني أدعي خلاف ذلك . لن أذهب إلى المكتبة
، أو إلى أي مكان آخر . لقد صار يخيل لي أنها ستطلع لي في كل مكان .
تناولت كتاب الإحصاء ، وبعد قليل وجدت أن لا فائدة من معالجة هذا الإحصاء
اللعين . كيف يقول عبد العزيز ، عن هذه المادة الكريهة ، أنها رياضة العقل
..؟! رياضة ..؟! هذا تمحك بالكلام لا معنى له . أليس عجيبا أن تتمكن ديمي
من هذه المادة الثقيلة المعقدة ، وهي الفتاة اللعوب ، التي أقرب ما تكون
للدمية البسيطة ، المعدة لكل أنواع الترفيه واللعب ، منها إلى ( كائن )
مهيأ للتعامل مع مسائل عقلية جامدة ..؟
كيف يجتمع وداعة ورقة ديمي .. وتعقيد الإحصاء وثقل ظله ..؟ هل هذه من نبوءات الشاعر العربي القديم ، الذي قال :
ضدان لما اجتمعا حسنا …. والضد يظهر حسنة الضد .
إذا كان حسن ديمي أمر مفروغ منه .. أين الحسن في الإحصاء ..؟ آه … يبدو أن هذا الإحصاء سيحولني فيلسوفا .
رياضة ..؟ سامحك الله يا عبد العزيز ..
هل قلت رياضة …؟! وجدتها .. سأتصل به ، يا رب ليته يكون موجودا .
ـ ألو .. السلام عليكم ، كيف الحال يا رياض ، هل أزعجتك ..؟ جزاك الله خيرا
.. وأنا كذلك آنس بسماع صوتك .. لدى مشكلة بسيطة … لا .. مجرد أزمة مع
مادة الإحصاء .. وحيث أن سلطتك عليها نافذة ، فإني آمل أن تنصفني منها …!
شرط .. ما هو شرطك ..؟ الله أكبر… أنت أروع من أحتكم إليه .. تمكنني من
عدوي الإحصاء ، وتعشيني كبابا ، سآتيك خلال دقائق .. هل أحضر معي شيئا ..
غير الإحصاء طبعا .. ثلج وكولا ..؟ حسنا مع السلامة ..
شكرا يا عبد العزيز لولا كلمتك (رياضة) ، لما تذكرت رياض …
ربي .. هل هذه بوادر النصر على الشيطان … على الهوى .. على فتنه ديمي ،
التي تكاد تسحب قدمي ..؟ ربي إن موعد لقاءها يقترب ، وأنا أقاوم .. ما دمت
بعيدا عنها ، لكني حالما أراها تغلبني نفسي .. ، ما يعذبني يا ربي ، أن كل
هذا يحدث باسم دعوتها إلى الإسلام . ربي كانت نفسي تحدثني أن ألجأ إلى ديمي
لتساعدني في الإحصاء ، فلجأت إليك ولم تخيب رجائي ، ربي الوقت يمضي بسرعة
.. فكن معي يا ربي .
قضيت وقتا ممتعا مع رياض . شاب من خيره الاخوة أدبا ، وخلقا ، وعلما .
متزوج وأب لطفل .. شعرت بحرج ، إذ لم أكن أعلم بأن زوجته قد عادت من بلدها ،
بعد أن اضطرت لملازمة والدتها المريضة لفترة من الوقت ، بقى رياض خلالها
لوحده .
قلت لرياض معتذرا :
ـ لقد سطوت على وقت غيري .. فلم أكن أعلم أن الأهل قـد عادوا .
قال بروح الدعابة ، التي لا تفارقه :
ـ لقد رأت أم الحارث ، يعني زوجته ، أن نتعشى معاً يوما دون يوم ، حتى توطن نفسها على طبيعة الحياة ، بوجود زوجة ثانية .
قلت له مازحـا :
ـ اعتقد أنها ضحكت عليك ، ما دامت المسألة مجرد فكرة .
ـ لا … فأنا اتبع معها سياسة الخطوة خطوة . لقد كسرت الحاجز النفسي ، تجاه
وجود امرأة ثانية معنا ، أي (حقها في الوجود) ، نحن الآن في مرحلة التطبيع ،
أي إمكانية التعايش في مكان واحد ، أي تحت سقف مظلة (إقليمية)..، أقصد بيت
واحد … !
ضحكنا ، ثم أضاف :
ـ يحسن بنا أن نغير الحديث ، فالحلا و الشاي لم يصلا بعد من عند أم الحارث ، ولا نريد أن نقع ضحايا مقاطعة من أي نوع .
شرح لي رياض الإحصاء كأحسن ما يكون ، وأحسست أن مغاليق المادة فد انفتحت لي ، وانزاح عن صدري عبء كبير …
صلينا المغرب ، وأكرمني رياض وأم الحارث بكأس من الزنجبيل . كنت ساكنا جدا ،
وأنا أحمل الحارث لأقبله ، استعدادا للخروج . طعم الزنجبيل الدافئ اللذيذ ،
وابتسامة الحارث العذبة ، وعبارات الود والمجاملة ، التي أغدقها علي رياض ،
هي آخر ما كنت أظن أني سأحمله معي من هذه الأمسية الجميلة .
كنت أنظر إلى ساعة الحائط ، التي تشير إلى السادسة والنصف ، حينما وضعت
الحارث بعد أن طبعت قبلة على جبينه ، و كنت .على وشك أن أهم بالخروج ،
عندما قال لي رياض ، بدون مقدمات :
ـ مصعب .. ألم تفكر في الزواج ..؟
امتقع لوني وارتبكت .. قلت في نفسي : (هل تراه لاحظ علي شيئا .. هل رآني معها .. ؟) أجبت ، وأنا أحاول أن أبدو طبيعيا :
ـ تكلمت مع الوالدة بهذا الشأن ..
قال ضاحكا ، وهو يضغط على يدي :
ـ إذن الإشاعة التي تقول أنك ستتزوج أمريكية ليست صحيحة ..؟!!
جف حلقي ، ونظرت إليه بشك ، وقلت بصوت متقطع :
ـ إشاعة .. أية إشاعة ..؟
ضحك وقال :
ـ رأيتك أنا و عبد الرحمن ، تتحدث مع العميدة كارولين ديفز ، عميدة شئون
الطلبة الأجانب .. فقال عبد الرحمن ، لو يضحي مصعب ، ويتزوج هذه العجوز ،
لقدم خدمة عظيمة لجمعية الطلبة المسلمين .
شعرت كأنما سكب علي ماء بارد ، ولم أحس بشيء من حولي سوى يد رياض ، التي ما
زالت ممسكة بيدي ، و صدى ضحكته المجلجلة ، التي أطلقها بعد تعليقه الساخر ،
على حديثي مع عميده الطلاب الأجانب .. ابتسمت ابتسامة مرة ، وأنا اسحب يدي
من يده مودعا كنت وأنا أجر خطواتي ثقيلة إلى السيارة ، أحس كأني ناهض
الساعة من فراش المرض . لقد أرعبتني يا رياض بمزحتك الثقيلة ، كيف لو كان
التي رأيتموني أحدثها تلك ( الساحرة ) ، هل كنتم ستقولون يقدم خدمة جلى
للإسلام ..؟! هل ستكون الإشاعة ، (التي ما كانت) .. أنني سأتزوجها .. أم
شيئا آخر ..؟
على أية حال (جاءت سليمة) ، كما يقولون في الأمثال . هل هذا إنذار لي من
ربي بأنه مازال يستر علي ، رغم إصراري على فضح نفسي . يا ربي ساعدني ، فإني
أشعر أني ازداد ضعفا كلما ازداد الوقت اقترابا .
وصلت (الكيف دوماسيه) متأخرا عشر دقائق ، وكنت أمني نفسي أن لا أجدها ، بعد
هذا التأخير . حينما وضعت قدمي على مدخل المحل ، رأيتها جالسة على إحدى
الطاولات . كنت عازما على أن لا أنجر معها في أي حديث ، أن آخذ أوراقي
وأمضي .
لم يبد أنها متضايقة من تأخري ، بل إنها بادرتني ، بعد أن وصلت إليها ، بالتحية والاعتذار ، قائلة :
ـ أنا آسفة ، لقد تأخرت عليك ، لقد وصلت الآن .. لعلك جئت ولم تجدني على الموعد الذي اتفقنا عليه ..؟
لم تكن صادقة ، فالقهوة في كوبها باردة ، ولم يبقى منها إلا أزيد من النصف
بقليل ، وكان واضحا أنها وصلت إلى هنا على الموعد ، أو ربما قبله بخمس
دقائق ، لكنها أرادت أن تلطف الجو بهذا التبرير المهذب ..
قلت :
ـ لا .. أنا الذي تأخرت ، لارتباطي بموعد سابق .. أنا آسف .
ظللت واقفا ، بانتظار أن تعطيني أوراقي لأنصرف ، لكنها لم تفعل ، بل قالت :
ـ ألا تجلس ..؟
ـ أنا مستعجل .. ومشغول كما تعلمين .
نظرت إلى نظرة ملؤها استعطاف ، وقالت :
ـ لقد طلبت لك كوب قهوة ، وأعدك .. لن يكون هناك أحاديث ، من أي نوع ..
جلست دون أن أتكلم .. جاءت القهوة ، قالت :
ـ دعني أخدمك .. ما مقدار السكر ..؟
ـ مكعبين ..
ـ حليب ..؟
ـ نعم ..
خفقتها بالملعقة ثم قدمتها لي .
ـ شكرا ..
خيم علينا الصمت ، أكره مثل هذه المواقف .. لكن ماذا أصنع ، لا أستطيع أن
أتمادى اكثر ، العلاقة تنحو في اتجاه لم أعد أسيطر عليه ، مهما بررت لنفسي
نبل الغاية . شعرت هي بالإحراج .. قالت :
ـ أطلب لك شيئا تأكله .. أنا سأطلب لنفسي (كروسون) ..؟
ـ لا .. شكرا ..
قالت ، محاولة دفعي للكلام :
ـ كيف الإحصاء ..؟
ـ ممتاز ..
ـ حقا .. هذه أخبار سارة ، كنت أنوي أن أعرض المساعدة .
ـ أحد الأصدقاء ساعدني ..
ردت بلهجة لا تخلو من الغيرة :
ـ لابد أنها صديقة خاصة ..
أجبت بحزم :
ـ إنه صديق ..
خجلت .. و قالت :
ـ من بلدك .. ؟
ـ نوعا ما .. إذا اعتبرنا الوطن العربي الكبير بلد واحد ..
علقت .. وهي تفرج عن ابتسامة مترددة :
ـ هذا الكلام كأنه سياسة ، وأنا لا افهم في السياسة كثيرا ..
ابتسمت ابتسامة باهتة ، دون أن أعقب ، ونظرت إلى ساعتي ، ففهمت ما اقصد .. فقالت :
ـ تريد أن تذهب ، كنت قد نويت أن أدعوك إلى مطعم (هاي رووف) .. إنهم يقدمون عرضا خاصا ، ليلة كل جمعة
ـ .. يؤسفني أن لا أكون قادرا على تلبية دعوتك ، فقد تعشيت عند أحد الأصدقاء قبل أن آتيك .. كما أني مشغول كما أخبرتك من قبل ..
ثم أضفت ، محاولا تعزيتها لرفضي دعوتها ، وتعاملي معها بهذه الطريقة الرسمية جدا :
ـ تستطيعين أن تذهبي الليلة وحدك .. وآمل أن تتاح لنا الفرصة معا .. مستقبلا ..
رأيت الانكسار والخيبة على وجهها ، وهي ترد علي بأسى :
ـ العرض مفتوح لشخصين فأكثر فقط .. وعلى أي حال ، لن أموت جوعا في هذه
المدينة المليئة بالمطاعم الرديئة ، التي تفتح أبوابها باستمرار ، للخائبين
أمثالي …
نهضت .. و توجهت لأدفع ثمن القهوة و الكروسون ، الذي لم تأكله .. رمقتني بنظرة عتاب ، و قالت :
ـ أنت ضيفي .. رغم اني مضيفة ثقيلة الظل ..
طأطأت رأسي ولم أرد . دفعت ثمن القهوة ، ثم اتجهنا معا إلى مواقف السيارات ،
دون أن يحدث أحدنا الآخر . شعرت بتأنيب ضمير على هذا الجفاء ، الذي
عاملتها به ، وقبل أن نفترق ، كل إلى سيارته ، التفت إليها ، و قلت :
ـ ديمي سامحيني ..
نظرت إلي بعينين تفيضان بالألم .. وقالت :
ـ لا شيء ألبته ..
حينما ركبت سيارتي انتبهت إلى الكيس الذي حملني إياه رياض ، والمملوء بما
بقى من عشائنا . أسرعت بالسيارة في اتجاهها ، وحينما حاذيتها ناديتها :
ـ ديمي ..
التفتت ، وكأن صوتي هاتف نزل عليها من السماء . كانت تبكي ، فانقبض قلبي ، لكني تحاملت ، وقلت :
ـ معي طعام لذيذ جدا ، يحتاج إلى تسخين فقط ، اعتبريه اعتذارا غير كامل ، على تصرف فج ..
إنداحت على صفحة وجهها دوائر من السرور ، فأخذته ، وهي تقول :
ـ اقبله .. ليس على إنه اعتذار .. إنه شيء أكثر من ذلك .. طابت ليلتك ،
وأمل أن يحالفك التوفيق في امتحاناتك .. إلى اللقاء يوم الاثنين ، في
امتحان الدكتور اندرسون .
في أعماقي لم أكن مرتاحا للطريقة التي تم بها اللقاء ، نفسي تنازعني إليها ،
فكرت أن اعتذر لها يوم الاثنين . لكن عن ماذا .. يقول لي عقلي هذه المرة
.. ؟ .
وساوس النفس والشيطان تقول لي : (قد تأثم بتنفيرها من الإسلام) . في قرارة
نفسي أعلم أنه الهوى والرغبة فيها لذاتها ، وإن كان مع حظ النفس شيئا
للإسلام ، فلا بأس . لو كان رجلا ، أو حتى امرأة قليلة الحظ من الجمال ،
اكنت تتعب كل هذا التعب ..
اكنت تلوم نفسك .. كل هذا اللوم .. ؟
حين وصلت البيت كان الصراع داخل نفسي قد بلغ مني مبلغة ، بكيت .. بكيت
كثيرا ، بكيت حينما تذكرت ، أنني الليلة حدثتني نفسي أن أضع يدي في يدها ، و
أقول لها وداعا . داهمني شيطاني بفكرة أن ملامسة يدي لكفها ستطفئ هذه
النيران المشتعلة في جوفي ، وأن الرغبة المتقدة في داخلي ستخبو ، بمجرد أن
أحس بنبضها ينتفض في كفي ..
نحن هكذا نتوتر أمام كل تجربة جديدة ، أو مغامرة مجهولة .. كان هذا حديث نفسي ..
” كف يا شيطاني ” . هذه آخر صيحة دوت في داخلي ، حينما تراجعت عن تلك
الفكرة السيئة .. في تلك اللحظة أيضا .. تذكرت (خالد) ، عندما قرأ سورة
النازعات ، يوم صلى بنا العشاء قبل أسبوعين 0 تذكرت خالد ، عندما عجز عن
إكمال السورة لأكثر من عشر دقائق .. بعد أن غلبه البكاء وهو يقرأ :
” وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ”
ظل خالد يرددها ويغلبه البكاء 0 لم أبك في حياتي مثل تلك الليلة 0 كان صوت
خالد الندي يكاد يتشقق عندما يصل إلى قوله تعالى : “مقام ربه” .
يا لهول الموقف .. ثم حينما يصل إلى :
“ونهى النفس عن الهوى” .. يخيل إلى أن كل ما فيه يبكي . كنت أبصر جسده كله
يرتعش ، لحظة ينطق لسانه بكلمة الهوى . يشرق بالدمع ثم ينتحب نحيبا يصدع
الجبال الصم . وعندما جذب من أعماقه الآية التي تليها :
” يسألونك عن الساعة ” شهق شهقة حسبت روحه تخرج معها .
خالد رجل رباني ، بكاء ، يستشعر الموقف بين يدي المولى سبحانه . وإذا بكى ،
وكثيرا ما يفعل ، يذيب جلاميد الصخر . آه يا خالد ليت لي قلبك .. ليت لي
رهافة إحساسك . ليته لي .. حتى أخاف مقام ربي ، و أنهي نفسي عن الهوى . ليت
لي .. حتى أكون كما قلت :
من استشعر الموقف هان كل شئ من أمر الدنيا في عينيه .. حتى لو كانت ديمي بكل فتنتها وإغوائها .
مر علي ساعتان وأنا على هذه الحالة ، بكيت حتى خلت أني اغتسلت كلي بدموعي .
أحسست أن الدمع الحار ، الذي سال غزيرا من مآقي ، قد غسل كل العناء في
قلبي ، صليت خلالها العشاء ، كما لم أصلى مثل تلك الصلاة في حياتي . شعرت
كم تكون الصلاة لذيذة حينما يكون القلب مشرعا لنداء السماء ، وكم تكون
الصلاة ذات معنى حينما لا تستشعر حولك إلا الموقف .. والصحف تتطاير .
يا الله أي عالم علوي كنت تسبح فيه يا خالد ، وأنا أطارد سرابا .. وهما ..
شيطانا . أأبلغ ما تبلغه ، وأنا ألهث خلف المحسوس ، الفاني الذي سيأكله
الدود ، قبل أن يخالطه التراب ، وأنت الذي تحلق في اللا محسوس ، في السرمدي
.. في تلك الآفاق النورانية .
ما الجسد يا خالد إلا امتداد للدوني ، للحضيض ، للأرضي ، لذلك حري به أن
يجعل من يتطلع إليه ، ويلبي رغباته أن يلتصق بالأرض ، لماذا .. ؟ لأنه
انسلخ من العلوي ، واتبع هواه .. اتبع هواه يا خالد .. فكان ماذا ..؟ كان
من الغاوين .. ولم يكن من الدعاة الهداة .. رحماك يا رب .
مرت أيام نهاية الأسبوع سريعة وعادية 0 ذاكرت جيدا ، حيث لم أغادر البيت
إلا قليلا … أوقات الصلوات فقط . مطعم أبو أيمن السوري قدم لي حلا مثاليا ،
من خلال وجبة المقبلات والمشويات اللذيذة ، التي تكفل بإيصالها ، دون
مبالغ إضافية ، إلى المنزل . وهي معاملة خاصة للملتزمين ، كما يقول أبو
أيمن ، الذي يشعر بعظيم الامتنان لهم ، لحفظهم أبناءه وأبناء المسلمين ، من
خلال المدرسة التي تشرف عليها جمعية الطلبة المسلمين ، والمعسكرات
التربوية التي تقيمها .
غدا الاثنين امتحان الدكتور اندرسون لمناهج البحث ، أشعر أني مستعد له جيدا
، فقط احتاج أن أنام مبكرا ، لاستيقظ نشيطا .. سأصلي وتري أول الليل وأنام
.
الاثنين يوم مبارك ، قررت أن أصومه ، فالجو بارد ، وعملا بالسنة ، وتحسبا
لمفاجآت لا أعلمها . والصوم كما قال صلى الله عليه وسلم (وجاء) ، وأنا لا
احتاج الوجاء و (الحماية ) ، كما أحتاجها في هذه الأيام ، وفي امتحان
الدكتور اندرسون بالذات .
بقى على الامتحان نصف ساعة ، حينما عزمت على التوجه للجامعة . لم أتوقع أن
يكون الثلج بهذه الكثافة ، لحظة ألقيت نظرة من النافذة ، و الثلج يتساقط ، و
ارتأيت أن أصلى الفجر في شقتي . بدأت أزيح الثلج عن طريق السيارة ، وحينما
انتهيت ، و ظننت أن الطريق سالكه ، اكتشفت أن إحدى العجلات معطوبة . ليس
اتساخ الأيدي ، و الملابس ، وبرودة الجو ، هو المزعج فقط ، في مثل هذه
المواقف .. لكن أن يكون بانتظارك ، بعد كل هذا امتحان . ما أن بدلت الإطار
المعطوب بآخر صالح ، وحاولت تشغيل السيارة ، حتى باءت محاولاتي بالفشل ، ثم
أكتشف في الأخير ، و يا للسخرية .. أن السيارة فارغة من الوقود .
وصلت قاعة الامتحان متأخرا عشرين دقيقة ، استقبلني الدكتور أندرسون
بابتسامة عريضة ، وهو يشير لي بأن آخذ مقعدا . اندفعت إلى داخل القاعة ابحث
لي عن مكان ، ولم انتبه إلى أحد الطلبة ، الذي قد مد رجليه أمامه ، فعثرت
ووقعت على وجهي وتناثرت أشيائي . حينما استقريت في مكاني أخيرا ، رأيت
الدكتور اندرسون ما زال مبتسما . قلت معتذرا :
ـ هذا اليوم ليس لي يا دكتور اندرسون .
رد مازحا :
ـ لابد أنك كنت تجرف الثلج ، أو أن إطار سيارتك قد تنسم هواؤه …
وهذه هي الأعذار التي يسوقها الطلاب عادة ، حينما يتأخرون .
قلت :
ـ إنك لن تصدقني يا دكتور اندرسون ..
ـ ماذا .. ؟
ـ بالإضافة إلى ما ذكرت ، فقد اكتشفت أن سيارتي قد نفد وقودها ..
أطلق ضحكة مدوية ، وقال :
ـ لن يغلبك أحد يا مصعب .. ويأتي بمثل ما جئت به 0
شرعت بالإجابة على الامتحان ، لكن القلم لا يكتب . يخط حرفا أو اثنين ، ثم
يمتنع . عالجته بشتى الطرق دون فائدة . استنتجت أني حينما تعثرت برجلي
الطالب ، و وقعت ، والقلم في يدي ، ضربت ريشته الأرض فانثلمت .
لاحظ الدكتور اندرسون حيرتي فجاء مستفهما . فأخبرته بمشكلة القلم ، وسألته
أن يعيرني قلمه ، فذكر لي أنه اعارة لطالب آخر .. نسي قلمه .
قلت للدكتور اندرسون :
ـ ألم أقل لك أن هذا اليوم ليس لي ..
ابتسم ، وقال :
ـ لا عليك سنحل المشكلة ..
سأل الطلاب إن كان هناك أحد معه قلم آخر ، يمكن أن يعيره لشخص ، يبدو أنه
نثر الملح من فوق طاولة الطعام . وهو اعتقاد شعبي بين الأمريكيين ، تقوم
فكرته على أن من يكب الملح ، يلازمه النحس طيلة يومه .
لم يرد أحد من الطلبة ، رغم تكرار السؤال ، إذ قليل من الطلاب من يحمل معه
أكثر من قلم . كان الدكتور اندرسون على وشك أن يطلب مني أن أغادر القاعة ،
لأبحث لي عن قلم ، حين ارتفعت يد أحد الطلاب في أول القاعة . قالت الطالبة :
ـ عندي حل بدائي ، لكنه ينفع في مثل الظروف ..
ثم قامت بكسر قلمها المرسم إلى نصفين ، وبرت أحدهما ، و أعطته للدكتور اندرسون ، الذي أعطاني إياه بدوره ، وقال مازحا :
ـ لا أعتقد أن أحدا تشاركه الآنسة ديمي بمرسمها ، يمكن أن يقول هذا اليوم
ليس لي ..! إنها ديمي إذن ، يدفعها القدر من جديد في طريقي ، ماذا يخبئ لي
هذا اليوم من مفاجآت ..؟ تطاولت ، وبهزة من رأسي ، وابتسامة خفيفة ، شكرت
ديمي .
كان متوقعا أن ينتهي الوقت ، قبل أن انتهى من الإجابة على جميع الأسئلة . لم يبق إلا أنا والدكتور اندرسون ، الذي قال :
ـ أنا مضطر أن أغادر ، عندما تنتهي أعط ورقة الإجابة لسكرتيره القسم ..
لاحظ أني محرج ، فقال :
ـ لا داعي للحرج .. فأنا أثق بك .
هذا التعامل ينعدم في بلادنا مع الأسف ، حيث الأمانة صارت نادرة ، وقيم
الثقة ، أحيانا غير موجودة . دائما أسال نفسي ما الذي يبقى هذا الوحش
الأمريكي الجبار ، رغم مظاهر الظلم والفساد الكثيرة المنتشرة فيه …؟ إنه
قطعا ، ليس القوة المادية المجردة وحدها . فالله سبحانه قد قص علينا أحوال
أقوام اشد قوة ، أهلكهم ، (فهل ترى لهم من باقية) ..؟ . إن مثل هذه القيم ،
وأخرى يطول الحديث عنها ، هي التي مازالت تحافظ على الإمبراطورية
الأمريكية من الانهيار .. حتى يأتي أمر الله .
لماذا عدمت مثل هذه السلوكيات الجميلة في مجتمعات المسلمين ..؟ ألا يكفيها
التخلف المادي الذي يطبق عليها ..؟ لماذا لم يبق مسموعا سوى صوت النفاق ..
وصار الإسلام ، الذي هو مصدر هذه الفضائل جميعها ، مطية يركبها كل أفاك ،
ليحقق من خلالها أهدافه ..؟ كل همه أن يملأ جيبه ، ويشبع بطنه و .. و أشياء
أخرى . صار الإسلام .. شعارا فقط . يردده السياسي ، ويلوكه شيوخ السوء ،
وتشدو به جوقة النفاق .
ماجت هذه الخواطر في بالي للحظة ، وأنا أرقب الدكتور أندرسون يغادر القاعة ويتركني لوحدي .
أكملت الإجابة على الامتحان ، ولملمت أوراقي ، وتوجهت خارجا ، لأجدها قبالتي ، عند الباب :
ـ ديمي .. ماذا تفعلين هنا ..؟
ـ كنت انتظرك لقد ..
قاطعتها :
ـ تريدين القلم ..؟
ـ هل أنت جاد … لا تكن سخيفا لقد قلقت عليك ، ماذا صنعت في الامتحان ..؟
ـ أظن الأمور على ما يرام ،
ـ ماذا ستفعل الآن ..؟
ـ سأعطى أوراق الامتحان للسكرتيرة ..
ـ و بعد ذلك ..؟
ـ سأذهب إلى البيت لاستريح ، ثم أذاكر لامتحان أخر لدى بعد غد ..
ـ هل لديك بعض الدقائق لنتحدث عن أشياء سبق وسألتك عنها ..؟
ـ لا .. لا أظن أني أستطيع ألان ..
تبادلنا النظرات ، ورأيت في عينيها رجاء ..
ـ آمل أن تتفهمي وضعي ..؟
لم ترد علي .. واستمرت تنظر إلى ، وفي يدها إصبع شوكولاته ، فمدته لي ، فقلت :
ـ شكرا لا أستطيع أن أكله ..
ـ لانه مني ..؟
ـ لا .. ولكنني صائم اليوم … عفوا لابد أن أذهب الآن ..
وانصرفت .. و حينما سرت بضع خطوات نادتني قائلة :
ـ مصعب .. هل أستطيع أن أسألك سؤالا ..؟
التفت ، وكانت واقفة في مكانها .. تقلب إصبع الشوكولاته في يدها ، بشيء من القلق ..
قلت :
ـ ماذا ..؟
ـ هل حقا يهمك أمري .. أقصد هل يهمك أن أعرف الحقيقة عن الإسلام .. أو جزء من الحقيقة ..؟
فاجأني السؤال ، وشعرت بقلبي ينقبض من الألم . هل أنا أسأت التقدير في تعاملي معها ، وتوهمت أشياء لم تكن موجودة إلا في خيالي ..؟
لم يكن لدي وقت لأناقشها ، تقدمت نحوها ، وقلت :
ـ اليوم الاثنين ، وبعد غد الأربعاء لدي امتحان في المساء .. يوم الخميس سأكون حرا من أي ارتباط .
ـ حسنا .. نلتقي الخميس ، في نفس الوقت ، ونفس المكان …
ـ أي مكان ، وأي وقت تقصدين ..؟
ـ الساعة السابعة مساء .. في (الكيف دوماسيه) ..
ـ لا بأس ..
ثم سحبت إصبع الشوكولاته من يدها ، وأضفت :
ـ سآخذ هذا وآكله .. حينما أفطر بعد مغيب الشمس ..
ما كدت أنهي كلامي ، حتى اكتسحت وجهها موجه من السعادة ، وانشق ثغرها عن
ابتسامة رضا ، تدفقت من بين ثناياها ، مثل جدول ماء صغير ينساب من بين
حصيات مرمر…
و لم تعلق بشيء ..
ـ مع السلامة ..
قلت لها .. ثم استدرت منصرفا ..
بعد أن صليت فجر يوم الخميس ، نمت إلى حدود الساعة العاشرة . منذ اشهر لم
أنم إلى هذا الوقت ، بسبب ضغط الدراسة . قررت ايضا أن اطبخ لي فطورا ، وهو
ما لم افعله طول الفترة الماضية ، إذ اكتفى بالمربيات ، و الأجبان ، والبيض
المسلوق .
سأصنع فطورا له مذاق خاص ، (بيض شكشوكة) . هذا أول شيء تعلمته شقيقتي حصة ، وعلمتني إياه ، حينما عزمت على السفر للدراسة .
حصة تصغرني بعامين ، وقبل سنتين وبينما كنت في زيارة الأهل ، أشفقت على
والدتي ، لما علمت أن كل أكلي تقريبا من المطاعم ، لأني لا أجد الوقت
الكافي للطبخ . حصة اقترحت حلا للمشكلة ، أن أتزوج . ومضت خطوة إلى الأمام
في هذا المشروع ، حينما تكفلت باختيار الفتاة المناسبة .
انشغلت بترتيب بيتي عامة النهار . لقد انقلب البيت رأسا على عقب ، بسبب
حالة الطوارئ التي فرضتها الامتحانات . لقد بدأ الموعد مع ديمي يقترب ، و
صرت أشعر بالتوتر . انطلقت بسيارتي ، و وصلت إلى مركز ((رينبو كلر مول)) ،
قبل السابعة بقليل ، لأقابل ديمي صدفة عند مدخله 0 ركبنا المصعد إلى الدور
الاول ، وحينما دخلنا (الكيف دو ماسيه) ، خيل إلى أني أدخله لأول مرة . في
المرة الماضية لم ألاحظ فخامة الأثاث ، وتناسق الألوان . هناك أيضا موسيقى
.. تدندن بصوت خافت . شعرت بانقباض ، المكان حالم جدا ، وهو أليق بتناجي
العشاق ، منه بالدعوة إلى الله ، قلت بتوتر :
ـ المكان غير مناسب ..
ـ لماذا .. ؟
ـ موسيقى وأضواء خافته ، نحن لم نأت لنتحدث عن (روميو وجوليت) ..
شعرت بالحرج وقالت :
ـ ماذا تقترح ..؟
ـ نغير المكان ..
ـ هل كنت ترى أن نذهب إلى مكدونالدز ، وغيره من الأماكن المشابهة ، حيث يتجمع ذلك النوع من الشباب والبنات الذي تعرفه ..؟
لم أرد .. فأضافت :
ـ ما رأيك أن نذهب إلى منزلي ..؟
فقلت بسرعة :
ـ لا .. لا ..
قالت :
ـ منزلك ..
ـ غير مناسب ..
لقد أحرجتني جدا ولم تترك لي الخيار ، وبقيت لحظات مترددا ، ثم قلت :
ـ لا أريد الموسيقى ..
توجهت إلى مدير المحل ، وتحدثت معه قليلا ، ثم عادت وعلى وجهها ابتسامة ، وقالت :
ـ لن يكون هناك موسيقى ..
قادنا أحد العاملين في المقهى إلى ركن هادي ، وبدون موسيقى ..
ـ كيف .. ؟
.. سألتها ..
ـ انهم يتحكمون بالتوزيع الصوتي .
أخذنا أماكننا ، وتبادلنا الحديث بسرعة عن الامتحان ، حتى جاءت القهوة ، رشفت شيئا من قهوتي ، وسألتها :
ـ هل هناك شئ محدد تودين السؤال عنه ..؟
أصلحت من جلستها وقالت :
ـ لعلك تذكر أني سألتك من قبل عن شيئين ، أحدهما كان التسامح ، والآخر الحب
.. وهو الذي لم تتح لنا الفرصة لنتحدث عنه .. أنا أعني كيف ينظر الإسلام
إلى الحب ..؟
لم أدر بما أجيبها .. لكني أذكر أني بدأت هكذا :
ـ لم يعل الإسلام شيئا مثلما أعلى من شأن الحب ، حتى أنه ربطه بالرب سبحانه
وتعالى وجعل الله عز وجل ، هو الغاية التي ينتهي إليها الحب ، أيا كان
نوعه . الإسلام حينما فعل ذلك ، أراد أن يجرد الحب من كل رباط محسوس ، ومن
كل رغبة ، أو شهوة بشرية آنية ، تتلاشى لحظة تحققها ، ليجعله متصلا بالله
مباشرة . فالحب فيه سبحانه ، أسمى درجات الحب ، ولا يتحقق إيمان بشر ، إذا
لم يحب الله والرسول صلى الله وعليه وسلم ، ولا يتحقق إيمانه .ز كاملا ،
إذا لم يحب لأخيه المسلم ، ما يحب لنفسه .
لقد صار كل حب في الإسلام ، غايته الحب في الله . وحينما يؤكد الإسلام على
هذا الجانب ، فإنه يهدف إلى تجاوز المادي إلى الروحاني .. و الأرضي إلى
العلوي السماوي .
كيف … قد تسألينني ..؟
إن المادي والأرضي ينتهيان إلى الفناء ، أما الروحاني والعلوي فمصيرهما
الخلود . أليس الزواج بين رجل و امرأة هو نتيجة حب ، بشكل من الأشكال .
تأملي كيف ينظر الإسلام لأنواع الحب التي تؤدي إلى نشوء علاقة بين رجل و
امرأة ، تقود إلى الزواج . المال أولا ، ثم الجمال ، (أي ميزات الجسد ) ،
ثم المكانة الاجتماعية . وأخيرا الدين .. بما يعني من تمثل لكافة القيم
العليا ، التي جاء بها الإسلام ، وفي مقدمها ، حب الله سبحانه ، من خلال
تنزيهه بالتوحيد ، وأن لا يشرك معه أحدا . الإسلام يثمن عاليا الحب الأخير ،
لأن غايته الله سبحانه ،و ينعي على الفرد تطلعه للأنواع الأخرى . الأنواع
الأخرى .. مادية .. زائلة .. مصيرها إلى الفناء : المال يفنى ، والجسد يبلى
، والمكانة الاجتماعية تزول .
لأن الحب طبيعته هكذا ، فإنه يقاوم عوامل الفناء ، بل هو يتجدد باستمرار ..
إنه يستمد حياته من الذات العليا ، التي هي مصدر الخلود . إن من طبيعة
المادي أنك حينما تمتلكه تزهد فيه ، لأنه يفتقد لخاصية التجدد والتسامي ،
التي يملكها الروحاني . أضرب لك مثالا : ألسنا نشتهي الطعام اللذيذ ،
وحينما نملكه .. نمله ونزهد فيه . السنا نعشق الجمال ، فإذا ما أدركناه
تطلعنا لآخر غيره .
انظري .. حسن التعامل ، الأدب ، الأخلاق ، الرحمة ، التعاون . ألسنا إذا ما
وجدناها في إنسان تعلقنا به ، و كلما أزداد تمثلا لهذه الخصال ، زاد
تمسكنا به . الإسلام تعامل مع هذين النوعين .. المادي و الروحاني ، على
أساس من قدرة كل نوع على منح السعادة ، لأكبر عدد ممكن من الناس ولأطول مدة
ممكنة .
الجمال مثلا ، يمكن أن يمنح السعادة والمتعة لشخص واحد فقط ، هو ذلك الذي
يباشر الجمال .. بطبيعته المحسوسة ، بشكل أولى ، ولمدة محدودة ، هي الفترة
الزمنية التي يكون فيها محتويا على عنصر الحياة والحيوية ، قبل أن تأتي على
نضارته عوامل الزمن . بل إن الطبيعة المادية المحسوسة له ، تجعل الاستمتاع
به ، مرهون بلحظة المباشرة ، أو اللذة الآنية .
على الجانب الأخر ، خذي الأخلاق كمعادل لجمال الروح ، بما تحويه من رحمة ،
وعطف ، وتعاون ، وأدب ، وغيرها من الخصال الحميدة . كم من الناس تمنحهم
السعادة ، دون أن يكون لعامل الزمن أثر على امتدادها في عمق الزمان ، أو
يمنع من شمولها و تمددها عائق المكان . الحب من هذا النوع يتجاوز الجسد ..
ليعانق الروح في افقها السرمدي .
جمال الروح يمكن أن يوجد في الرجل ، وفي المرأة ، وفي الأبيض و الأسود ،
والشيخ والطفل . أما الجمال المادي .. في الجسد ، المحسوس .. فلا . إنه
امتياز خاص ، لفئة محدودة من الناس اختارها الله ، لحكمة يعلمها هو سبحانه .
الحب على أساس من الروح يا ديمي ، يفتح المجال واسعا للترقي في مدارج
الكمال ، فارتباط الروح بالذات العليا ، يمنحها القدرة على الإبداع
والتسامي .. والزيادة . فنحن نستطيع أن نكون اكثر رحمة ، وأكثر عطفا ،
وأكثر تسامحا ، مرة بعد مرة ، مدفوعين بالحب الأسمى .. حبه سبحانه وتعالى .
لكننا لا نستطيع أن نكون أجمل ، و أجسامنا لن تكون اكثر نضارة ، و أنفاسنا
لن تكون أطيب رائحة .. في كل مرة ، لأن الجسد مرتبط بالأرضي ، الفاني .
جدير بحب كهذا يا ديمي … أن يؤول للزوال .
أظن أني قلت هذا الكلام ، وأشياء أخرى . المؤكد أن الذي كان يتكلم ليس
لساني فقط ، بل جوارحي كلها 0 لا أدرى كم كوبا من القهوة شربت وأنا أتكلم .
كنت أنظر في وجه ديمي ، بين وقت وآخر ، فأحس إنها معي بكل جوارحها . بل
كانت نظراتها .. يخيل إلي ، أنها تحاول أن تنفذ إلى أعماقي . كنت شابكا كفي
لبعضهما ، ويداي ممددتان على الطاولة أمامي حانيا رأسي ، حينما سمعتها ،
تقول بصوت واهي النبرات :
ـ هذا أجمل شئ سمعته في حياتي ..
استغرقتني لحظات تفكير ، لم انتبه خلالها إلا وكفاها تطبقان بهدوء على كفي
.. شعرت بخدر يسري في أوصالي ، ودفء يجتاحني ، حتى أحسست ذلك في حرارة
أنفاسي . لوهلة استسلمت دون مقاومة لهذا الوضع . في قرارة نفسي ، كنت أشعر
بعطش شديد .. لشيء لا أدري ما هو . ربما السكينة والهدوء .. والكف الذي
استريح عليه .
هل المرأة تملك كل هذه القدرة على التوغل في الأعماق . أم هذا شئ خاص بها وحدها ..؟ كنت في حالة استكانة تامة حين سمعتها تناديني :
ـ مصعب هل أنت بخير ..؟
رفعت رأسي ، وتأملت وجهها الذي يضج أنوثة وفتنة ، وأبصرت يدي بين يديها . يا إلهي
ماذا صنعت .. ؟ وتذكرت خالد وبكاؤه .. ودوت كلماته بعنف في :
” من استشعر الموقف هان في عينيه كل شئ ” .
أحسست كأنما تيارا كهربائيا يسرى في جسدي ، ويهزني بعنف ، فسحبت يدي بسرعة
فضربت كوب القهوة ، فاندلقت القهوة الحارة علي ، وصرخت من شدة الألم ،
فانفعلت هي وصرخت كذلك ، وهي تصيح :
ـ أنا آسفة .. أنا آسفة ..
أسرع عامل المقهى باتجاهنا ، إثر سماع الأصوات ، وقام بمساعدتي في تنظيف
ملابسي ، واحضر لي مرهما لعمل إسعافات أولية . كان واضحا أني احتاج إلى
علاج عاجل ، لذلك نصحنا بالذهاب إلى المستشفى بسرعة . أصرت أن تأخذني
بسيارتها إلى المستشفى . في الطريق .. ظلت تبكي ، وتعتذر أنها لم تقصد .
أجريت الإسعافات اللازمة ، وعدنا إلى سيارتي ، بناء على طلبي ، رغم أنها
كانت لا ترى أن أقود السيارة بنفسي . تأكدت الآن أني مصاب منها ، ليس في
يدي ، ولكن في قلبي . لم أتحرك حينما انحنت لترخى رباط يدي ، فلامس شعرها
وجهي . لقد فعلت تلك اللمسة فعل السم في جسدي ، أنا الآن ضعيف المقاومة ..
أنا الآن في خطر .
افترقنا بعد أن وعدتها أن أتصل بها ، لأطمئنها على حالتي الصحية . قالت ، وهي تمسك بيدي ، لتساعدني على ركوب السيارة :
ـ ساكون قلقة إن لم تفعل .. لابد أن تتصل بي ..
لم أبد مقاومة تذكر .. بل لم أبد أية مقاومة ، وهي تضع يدها على جبيني ، و
تؤكد علي ، بنظرات ملؤها الرجاء ، أن لا أنسى الاتصال بها …
توجهت إلى بيتي ، وصرت أتأمل النهاية التي انتهت إليها علاقتي مع هذه
الفتاة . تذكرتها وهي تبكي ، ونحن في طريقنا إلى المستشفى . كانت تقول : ”
لن أسامح نفسي إن أصابك أذى” .. و كررت أكثر من مرة عبارة : ” أنا أحبك ،
ولم اقصد أن أؤذيك” .. كانت هذه الكلمات تنغرس في وجداني عميقا .
بدأت الأفكار السيئة تراودني ، أثار لمسة كفيها ما زال يسرى نبضها في سائر جسدي
. نعومة راحتيها ، ودفئهما .. لم تفارقا خيالي إلى الآن ..شعرها يتراءى لي
كسبائك من ذهب . حينما وصلت إلى باب شقتي كرهت الدخول ، ولمت نفسي أن رفضت
عرضها ، بأن تأتي معي لتطمئن علي . دخلت المنزل وإذا بالهاتف يرن ، لا
أتوقع أحدا معينا ، رفعت السماعة ، جاءني صوته من الطرف الثاني هادئا ،
رخيما ، حزينا :
ـ السلام عليكم .. كيف حالك ..؟
ـ من .. خالد ، أهلا بهذا الصوت ..
ـ رأيت فيك رؤيا البارحة .. فقلقت عليك ..
شعرت بانقباض وقلت :
ـ خيرا إن شاء الله ..؟
ـ خير ..
قص علي الرؤيا .. ثم سألته :
ـ وماذا عبرتها ..؟
ـ تنجو من فتنة ..
و أضاف :
ـ هل تتعرض لمشكلة في الوقت الراهن ..؟
أحسست بالخوف وقلت بسرعة :
ـ من أي نوع .. ؟ لا .. لا .. أبدا والحمد لله ..
ودعني و دعا لي . إنه رجل ملهم .. ينظر بنور الله . ظلت عبارته : تنجو من
فتنة .. تتردد في ذهني مرة بعد أخرى . هذه بشارة .. قلت في نفسي : اللهم
نجني .
مر علي يومان لم أغادر فيها البيت ، خشية أن يسألني الاخوة عن سبب الإصابة
في يدي . تخلفت عن صلاة الجماعة .. واشعر بالذنب لذلك . لم أتصل بديمي كما
وعدتها ، رغم أني أفكر بها معظم الوقت … تناقض لم استطع أن أحله .
كيف انعتق من هذه الدوامة ..؟ سألت نفسي . بدأت أفكر بالاتصال بها ، حتى لا
أعطي صورة سيئة عن الإسلام .. هكذا زعمت لنفسي . ماذا لو قالت سآتيك ..؟
بدأت تلح علي الفكرة .. أن أكلمها .. وكدت استسلم لها ، ثم وجدت أنى إن
بقيت في شقتي فإني حتما سأتصل بها ، ولن أمانع أن تأتي عندي . ثم ..؟ آه ..
هذا هو السؤال ..
وصل الصراع في نفسي إلى أقصاه ، فقررت أن أخرج . قلت ، أذهب إلى المركز
الإسلامي ، فقطعا سأجد بعض الاخوة ، وهناك ، سأتسلى بهم ، وأظل بعيدا ، حتى
لا أقع ضحية لتداعيات النفس الآثمة .. الأمارة بالسوء ..
خرجت ، وحينما كنت أهم بركوب سيارتي ، سمعت صوتا يناديني ، فالتفت إلى مصدر الصوت كالملدوغ …
ـ يا الهي إنها هي .. كيف عرفت مكاني ..؟
شعرت بقلبي يهبط إلى قاع أحشائي ، وهي تنزل من سيارتها متجهة نحوي ، تتلفع بجاكيت خفيف تتقي به برد ديسمبر القارس .. قالت :
ـ انت تسكن هنا ..؟
تلعثمت ولم أشأ أن أكذب ، وقلت :
ـ نعم .. كيف وصلت إلى هنا ..؟
ـ جئت لزيارة صديقة لي تقيم في نفس البناية .. ويبدو أن أمرا طارئا حدث ،
فاضطرها للخروج ، فتركت لي ملاحظة على باب منزلها تخبرني فيها إنها ستعود
بعد ثلاثين دقيقة .. وأنا كما ترى ، انتظر عودتها في هذا البرد القارس .
قالت عبارتها الأخيرة ، وهي ترمقني باستعطاف ، فأدركت انها تريد ملجأ من
البرد ، ريثما تعود صاحبتها . ران بيتنا صمت ، لم أدر كيف اقطعه ، وكنت
خلالها أقلب أفكارا كثيرة ، معظمها سيء . و رغم أني ملتحف بمعطف ثقيل ، فقد
شعرت ببرودة تدب في جسمي ، ولم يحل الطقس البارد جدا ، دون تقافز حبات من
العرق على جبيني . كنت انظر إليها تتأملني أتصبب عرقا في هذا البرد ، وهي
تنكمش من شدته .. فبادرتني قائلة :
ـ أنا آسفة .. أنت خارج ، وأنا قد أخرتك .. معذرة على هذه البلادة ..
كان وجهها أصفر شاحبا من شدة البرد .. قلت لها :
ـ لا .. أبدا ، ليس هناك شئ مهم ..! لم لا تنتظرين عندي في شقتي ، إلى حين
عودة صاحبتك ، ونتناول خلال ذلك قهوة تشيع الدفء في أطرافنا التي تكاد
تنكسر من هذا الزمهرير ..؟
لم أكد أقول ذلك حتى تدفق الدم في وجهها الشاحب ، فاستعاد نضارته ، وقالت :
ـ أنا أشعر بامتنان عظيم للطفك الكبير .. كما أنني متلهفة لاستكمال نقاشنا
السابق .. ثم أضافت .. وأستطيع أن ألغي موعدي مع صديقتي .. إذا تطلب الأمر
ذلك .
إنها دعوة مفتوحة بلا جدال .. حدثت نفسي ، وأنا انصرف وإياها راجعين باتجاه
شقتي ، التي لم تكن تبعد سوى خمسين خطوة عن موقف السيارات . داخلني هم
كبير ، وزاد خفقان قلبي ، وكنت خلال ذلك في صراع نفسي عظيم ، جعلني في شغل
عن حديثها الذي لا أدري ما كنهه .
تقول لي نفسي : أليس هذا ما تريد .. أليس هذا ما كان حديث نفسك ، خلال
اليومين الماضين ..؟ هاهي قد جاءتك تسعى على قدميها .. أنت لم تذهب إليها ،
بل أنت لم تدعها .. إنها فرصة ، والله غفور رحيم . اجلس معها ، وإن جاء
العرض منها فليس ذنبك ، أنت قد قاومت و ابن آدم ضعيف ، والله سيعذرك …!
ويجيء صوت الضمير الحي : حذار فهذا هو البلاء العظيم .. أين الخوف من الله
.. أين الدعوة إلى الله ..؟ كيف إذا جيء بك يوم القيامة ، ورفعت على رؤوس
الأشهاد ، وقيل من هذا .. فتطاولت أعناق من قد يكون عرفك في هذه الدنيا
فيقولون : هذا نعرفه .. هذا الداعية إلى الله مصعب . فيقال : لا .. هذا
الزاني مصعب . يا إلهي أنت أرحم بي أن أصير إلى هذا المصير .
كنا في منتصف الدرج على بعد خطوات من باب شقتي ، حين تعثرت وسقطت ، لشدة
الاضطراب الذي انتابني ، بسبب الصراع الداخلي العنيف . ساعدتني على النهوض
.. كنت شاحبا ، غاض الدم في وجهي ، أتصبب عرقا ، وأطرافي ترتجف ، قالت لي :
ـ أنت متعب بجد ..؟
ـ نوعا ما .. ديمي أنا لا أستطيع أن أبقى معك .. أنا مرتبط ، ولا بد أن أذهب ..
شعرت بالخجل ، وقالت :
ـ لقد احسست بأني أحرجتك .. كم أنا غبية ، أنا اسفة جدا ، سأذهب 0
ـ لا .. لن تذهبي ، بل ابق وانتظري صديقتك في منزلي ، واعتبري نفسك في بيتك
.. اصنعي لنفسك قهوة .. وإن كنت جائعة ، ورغبت في الأكل ، فلا تترددي ..
فالثلاجة ، والمطبخ تحت تصرفك .. وإذا خرجت تأكدي من أن الباب مغلق ، وضعي
المفتاح في صندوق البريد رقم 7 في المدخل الرئيسي للبناية ..
قالت وفي عينيها علامات استفهام كثيرة :
ـ هل أنت متأكد ..؟
هززت رأسي موافقا ..
عادت لتسألني :
ـ هل تحتاج إلى مساعدة .. هل تستطيع أن تقود السيارة بنفسك .. ؟
ـ نعم ..
هل أنت متأكد بأنك ستكون بخير .. ؟
ـ نعم .. ثم أضفت في سري .. ” إذا كنت بعيدا عنك ” 0
أمسكت يدي بيديها ، و دمعتان حائرتان في عينيها ، و قالت :
ـ مصعب أنا أحبك ..
تسمرت عيناي في وجهها الطفولي ، و الألم يفتك بقلبي .. و قلت :
ـ و أنا كذلك .. لكني يجب أن أذهب ..
سحبت يدي من يديها ، و انحدرت مع الدرج ،و حينما حانت مني إلتفاتة ، و أنا
في آخر الدرج ،كانت ما زالت هناك … الدمعتان من خلفهما عيناها الزرقاوان ،
بدتا كموجتين انكسرتا على شاطئ لازوردي …
و أنا ..
مثل صياد أدركه الغروب ..
على شاطئ موحش ..
شباكه فارغة ..
قلبه فارغ ..
إلا من رحمة الله ..